كتب الكثير خلال الأيام العشرة الماضية عن الأحداث الجارية في وسائل الإعلام الفلسطينية والإسرائيلية والأجنبية، على الرغم من قصر هذه الفترة، وبخاصة ما إذا كانت انتفاضة ثالثة، أم "هبة"، أم شيئاً آخر كلياً. ولا أريد هنا التوقف كثيراً حول التسمية، لكن هناك جانباً قد يكون من الضروري الإشارة إليه، لأنه لا يتعلق فقط بالتسمية، وإنما بجوهر الموضوع، وهو الأمر الذي سأعود إليه بعد قليل.
وأشير مباشرة إلى أن السبب الرئيسي في حيرة الكثير من المعلقين الفلسطينيين، إضافة إلى قيادة الجيش الإسرائيلي، ووسائل إعلام دولية، حول ما إذا كانت هذه الأحداث هي انتفاضة ثالثة أم لا، هو الافتراض الخاطئ أن أي انتفاضة ثالثة ستكون شبيهة بالانتفاضة الأولى أو بالثانية. هذا الافتراض الضمني أو الصريح خاطئ، لأن نموذج هاتين الانتفاضتين لن يتكرر في ظل الظروف الراهنة. فالانتفاضة الأولى وفرت مشاركة كثيفة وواسعة، لأن الجيش الإسرائيلي كان داخل المدن، أما الآن فحتى تتم المواجهة مع قوات الاحتلال، يتعين الذهاب إلى حواجز خارج المدن، الأمر الذي يقصر المشاركة على الشباب وليس الجمهور العام. أما الانتفاضة الثانية، فكانت مسلحة على الرغم من الاختلال الواضح في موازين القوى الميدانية بين الطرفين، وهذا لن يتكرر إلا في حالة انهيار السلطة الفلسطينية، حتى لو كانت هناك مواجهات مسلحة، محدودة ومحلية بين الحين والآخر.
بالتالي، ينشأ السؤال ليس فقط عن التسمية، وإنما عن كيفية فهم هذه الظاهرة التي ما زالت تنتظر تسمية تعكس ماهيتها عدا عن كونها مقاومة للاحتلال، أو احتجاجاً على اقتحام الحرم القدسي الشريف، أو أسباباً أخرى ذكرت في عدد من المقالات التي كتبت حتى الآن حول الموضوع. إضافة إلى ذلك، فإن كان نموذجا الانتفاضتين الأولى والثانية لن يتكررا، فكيف نعرف أن انتفاضة ثالثة قد اندلعت دون معيار موجود ومعروف ومقبول في بداية الحدث، وليس بعد انتهائه، ولا أحد يعرف ما هي النهاية، وكيف ستكون، وما هي نتائجها، إذا كانت لها نهاية أصلاً، أي نموذج الانتفاضتين السابقتين اللتين كان لهما نهاية . ولعلنا الآن نشاهد الانتفاضة الثالثة دون أن ندرك أنها هي، وبخاصة إذا كانت ستختلف عن النماذج السابقة بحكم التعريف، والأمر كذلك الآن. وأستذكر أن المواجهات الحالية بدأت منذ ما يزيد على العام، وفي صيف العام 2014، ابتداء من القدس، ومن ثمة في الضفة، وبقيت مستمرة وبوتيرة متقطعة وحتى الآن.
في كل الأحوال، إن القضية الأساسية تتعلق بكيفية قراءة ما يحصل، أي كيفية فهم وتفسير معنى اللحظة، والأهم من ذلك هو مستقبلها. وقد جرى التقاط بعض هذه الجوانب فيما قيل وكتب حول الموضوع، منها أنها تحتاج إلى قيادة وإلا خبت عاجلاً أم آجلاً، وأنها تحتاج إلى شعارات واضحة؛ أي مطالب محددة حتى تتم معرفة هدفها، ويُعرَف ما إذا تحققت، وآليات تحققها، وهكذا. هذه كلها آراء لها علاقة بالموضوع، ولكنها محدودة وقاصرة عن التقاط اللحظة ومستقبلها على وجه الخصوص، ولأسباب يمكن تفهمها حتى لو كانت قاصرة.
أما عن أسباب هذا القصور، فيتعلق بكيفية فهمنا للظاهرة الراهنة التي أمامنا الآن. وإذا كانت هذه الهبة أو الانتفاضة هي رفض لمسار أوسلو، وفشل حل الدولتين بعد ما يقارب من ربع قرن من المفاوضات، منذ مؤتمر مدريد في نهاية العام 1991 وحتى الآن، ورفض لأن تكون السلطة الفلسطينية بلدية كبرى لإدارة شؤون السكان الفلسطينيين المدنيين وبشكل دائم، وفي ظل السيادة الإسرائيلية، وتهويد القدس وعزلها عن القطاع وعن الضفة؛ إذا كانت كل هذا، ينشأ هنا سؤالان: الأول، ماذا يمكن أن يكون البرنامج السياسي لهذه الهبة أو الانتفاضة إزاء هذا الرفض؟ والثاني، من سيقودها في ظل الإجابة عن السؤال الأول، أي البرنامج الجديد غير المبلور بعد؟
أعتقد أن الإجابة عن السؤال الثاني أقصر وأسهل نسبياً من الإجابة عن السؤال الأول. والإجابة هي: ليست منظمة التحرير الفلسطينية في برنامجها السياسي الحالي، أي حل الدولتين. فما زال هذا برنامجاً قابلاً للتسويق السياسي عربياً وعالمياً، وأساس استمرار الشرعية الدولية للمنظمة، حتى لو أنه غير قابل للتحقيق وبالفهم الفلسطيني للدولة؛ أي ليس بحدود "مؤقتة" وداخل معازل، ودون القدس الشرقية، وفي ظل السيادة الإسرائيلية. والتخلي عنه سيكون ردة نحو ماضٍ سابق لاعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير كممثل للشعب الفلسطيني، حتى لو لم تعترف ببرنامجها، وسابق للاعتراف الدولي بها وببرنامجها. وهذا لن تقوم به منظمة التحرير كما هي الآن. ولن تكون حماس أيضاً من سيقود هذه الانتفاضة مستقبلا، ولأسباب عدة، منها برنامجها السياسي الحالي الذي يحتوي على عنصرين متعايشين مرحلياً: قبول حل الدولتين مع هدنة طويلة الأمد، وتحرير كامل فلسطين، أي غياب برنامج جديد لمستقبل هذه الهبة أو الانتفاضة الثالثة.
إذاً، ماذا سيكون البرنامج السياسي للانتفاضة الحالية مستقبلاً، بحيث يكون مقبولاً على الشباب الرافضين للواقع الراهن بمختلف جوانبه، غير المؤطرين حزبياً في الغالب، أو مغتربين عن برامج أحزابهم كما هي، ويطالبون ضمناً بنضالهم وتضحياتهم الكبيرة ببرنامج جديد، وإن كان هذا المطلب مضمراً، ولكنه بين وواضح؟
أشير ابتداء إلى أن هذا البرنامج الجديد لن يكون مقبولاً لهم، إلا إذا نُظر له وفُهم على أنه برنامج نضالي، حتى لو تعددت أشكال النضال. ولن تتمكن أي قيادة من أن تقود هذه الهبة حاضراً أو مستقبلاً دون برنامج كهذا. وأقترح أن هناك برنامجين فقط يستوفيان هذا الشرط:
الأول، وهو الخيار الذي تم التفكير فيه ملياً من قبل القيادة الفلسطينية ابتداءً من العام 2009 بعد انهيار "مسار أنابوليس"، ثم بعد ذلك في العامين 2010 و2011 على وجه الخصوص. لكن هذا الخيار كما تم، لن يعتبر عملاً نضالياً، ولن يصلح كما نُفذ من قبل القيادة الفلسطينية كبرنامج لمستقبل الانتفاضة الثالثة. ويتضمن هذا الخيار، من ناحية المبدأ، تأزيم العلاقة مع إسرائيل، من خلال خطوات عدة اصطلح على تسميتها لاحقاً "بالتدويل"، تبدأ بتقديم طلب عضوية في الأمم المتحدة إلى مجلس الأمن، ثم الجمعية العمومية، والانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، ومتابعة جرائم الحرب الإسرائيلية، من ضمن خطوات أخرى. غير أن القيادة الفلسطينية أحجمت في أكثر من مرة عن اتّخاذ خطوات تؤدي إلى صدام فعلي مع إسرائيل، إما بسبب ضغط أمريكي أو أوروبي أو عربي. وكانت القيادة الفلسطينية تدرك أن اتّخاذ مثل هذه الخطوات سيؤدي إلى رد فعل إسرائيلي متدرج من النوع الذي قامت به سابقاً، ابتداءً بوقف تحويل عائدات الضرائب المجباة لصالح السلطة الفلسطينية، وتقييد خروج بعض المسؤولين من الضفة، ومنع الرئيس أبو مازن من السفر، كما هددت بذلك مرات عدة، إلى إجراءات أشد حسب درجة تصعيد الموقف الفلسطيني. وبهذا المعنى، صرح صائب عريقات في أكثر من مرة، بأن الجانب الفلسطيني لن يحل السلطة الفلسطينية، وإنما إسرائيل ستقوم بذلك، أي في خطواتها العقابية كرد فعل على هذا المسار الصدامي للقيادة الفلسطينية، حتى لو كان دبلوماسياً وقانونياً.
غير أن هذا المسار لم يتحول إلى مسار صدامي حقاً بسبب إحجام القيادة الفلسطينية عن اتّخاذ الخطوات التي تؤثر فعلاً على إسرائيل، بسبب الضغوطات المشار إليها، ولسبب آخر وهو أن هذا المسار كان يهدف أصلاً للضغط لغرض العودة إلى المفاوضات، ربما بشروط أفضل من السابق. ولم يكن ما قامت به القيادة الفلسطينية كافياً لهذا الغرض، وبسبب عدم الرغبة في الخروج من دائرة التحالفات والعلاقات الحالية للسلطة الفلسطينية العربية والدولية، أي وضع حياة السلطة على المحك سياسياً ومالياً، والذي كان سينتهي -كما قال عريقات- بأن تحل إسرائيل السلطة الفلسطينية، أي بفعل ردودها العقابية حتى لو كانت متدرجة، إن استمر السير في هذا المسار. هذا هو مسار "التدويل" حتى الآن، ولا يوجد دليل على أن هذا النوع من "التدويل" سيأخذ بعداً نضالياً أكثر صدامية في المستقبل حتى يُقنع جمهور الشباب الرافض للواقع الراهن، إلا إذا تم الذهاب إلى نهاية الطريق، ووضع حياة السلطة على المحك. فإما أن تحل إسرائيل السلطة، وإما يتم تعديل ميزان القوة السياسي مع إسرائيل. ويبدو أن هذا مستبعد في المدى المنظور.
أما البرنامج الثاني، فينطلق من الواقع الراهن الذي يدركه الشباب المنتفض؛ سواء أكان ذلك بشكل واعٍ تماماً، أم بشكل مضمر منشأه الواقع المعاش. والواقع هو أنه توجد دولة واحدة ذات سيادة في فلسطين التاريخية وهي إسرائيل، مع حكم ذاتي محدود الصلاحيات في الضفة وقطاع غزة، لكن دون القدس، في معازل مسيطر عليها، والاستيطان مستمر، ونهب الأرض على قدم وساق في القدس وفي الضفة، ونظام الفصل العنصري قائم: طرق مستقلة للمستوطنين، قوانين إسرائيلية لهم لا تنطبق على الفلسطينيين، مصادر طبيعية منهوبة بما فيها المياه والأراضي الزراعية، وفارق كبير في مستوى المعيشة، وهكذا.
وأقول هنا مباشرة إنه من المبكر الآن رفع مطلب الدولة الواحدة كشعار سياسي وبرنامج وطني جديد، لأنه برنامج طويل الأمد، ولن يبدو واقعياً الآن. غير أن مطلب الدولة الواحدة لن يبدأ، وليس من الضروري له أن يبدأ جاهزاً ناجزاً كما هو. غير أن واقع نظام الأبارتهايد الذي أسست له إسرائيل، سيثير مطالبات بالمساواة، عاجلاً أم آجلاً، وبخاصة عندما تتم المقارنة بين أوضاع المستوطنين اليهود وأوضاع الفلسطينيين في الضفة الغربية على أكثر من صعيد. وقد شاهدنا في أيار من العام الحالي، إرهاصات مبكرة لمطلب المساواة هذا، عندما قرر وزير الدفاع الإسرائيلي موشية يعلون فصل العمال الفلسطينيين عن المستوطنين اليهود في ركوب الحافلات في الضفة الغربية، التي كان يستقلها العمال لغرض العمل داخل الخط الأخضر. وقد تراجع وزير الدفاع مؤقتاً عن هذا القرار بسبب الضجة الإعلامية التي رافقت هذا الإجراء الذي ينتهك مبدأ المساواة لصالح الفصل العنصري بصورة فجة وصارخة.
إن نظام الفصل العنصري الذي أسست له دولة إسرائيل، يشكل أحد مرتكزات حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات العالميةBDS))، التي تخشى منها إسرائيل، وتسعى جاهدة، منذ عامين تقريباً، إلى محاربتها في الدول الأوروبية خاصة، إضافة إلى الولايات المتحدة. ولم تحظَ هذه الحملة بتأييد فلسطيني رسمي أو أي دعم لها، وترك الأمر لمنظمات أهلية فلسطينية لمناصرتها، وكأن السلطة الفلسطينية لا شأن لها بهذا العمل النضالي. وكان لها فقط دعوات خجولة خافتة لمقاطعة بضائع المستوطنات، وفي فترة قصيرة فقط، بعد أن أخذ الاتحاد الأوروبي موقفاً من هذه البضائع المصنوعة في الأرض المحتلة.
يوجد نطاق واسع للعمل على دعم ومساندة مشروع المقاطعة العالمي هذا، كأحد عناصر البرنامج الوطني الجديد. وهذا يلزمه تنظيم داخلي وخارجي، وهيئات منظمة لمتابعته، كما تفعل الحركة الصهيونية العالمية في مناهضته. لكن الهدف الأساسي على المدى الأطول هو المساواة. هذه هي القضية الأساسية لمشروع نضالي جديد، ابتداءً بقضايا عينية ومباشرة تؤثر على حياة المواطنين وتلامس مطالبهم وتتعلق بحقوق أساسية: الحق في المساواة في حصص المياه، الحق في السكن وتراخيص البناء في مناطق (ج) في الضفة، وفي القدس أيضا، وانتهاءً بمطلب تطبيق قانون واحد للعقوبات، وقوانين أخرى غير القوانين العسكرية التي ما زالت سارية المفعول حتى في ظل السلطة الفلسطينية، ويعتد بها أحياناً من قبل بعض الوزارات على أن لها أسبقية على القوانين التي سنها المجلس التشريعي.
وحتى دون رفع شعار الدولة الواحدة، قد يتبين أن مطلب المساواة غير واقعي كبرنامج سياسي جديد. لكن، أين هي الخيارات الأخرى، وما هي؟ ولعل من يتمكن أن يترجم هذا الشعار، أي المساواة، إلى مطالب يفهمها الجمهور ويراها حاجات مباشرة له تساعده على البقاء والصمود، هو من سيقود الانتفاضة الثالثة.